خواطر
قارئة الكتب
عمر الفاروق إقبال
إستحضرني اليوم موقف ،من بداية تعارف كان في الشتاء الفارط،بين هاته الرُفوف في المكتبة العمومية للمطالعة،والحضوركان محتشماً يكاد ينعدم،فالقراءةعندي شغف وهوس ،ورائحة الكتب المميزة تفوح من جنباتها القديمة والحديثة منها،تخالطها رائحة القهوة التي أوشـك على إنهائها ،وبمثلي ينكأ القرح ،تواق إلى مالم ينل ...لابأس.
عند الرف العاشر ،في جناح الروايات الأدبية العالمية والدواوين الشعرية ،وبعضاً من كتب اللغة التي لم تجد لها مضجعاً الموضوعة فوق رواية الهُوبيت ورواية النبيلةالرُوسية والزنبقة السوداء وروايةبائعةالخبز والبؤساء ، والقائمة تطول بطول هذا الرف الحديدي المُقعر ،في انتظار أن يُحجز لها مكان مرموق بين هاته الجدران المتشققة،وكان الفاصل بين رف الروايات والدواوين مساحة بطول الذراع فيه رأيت مكنسة خضراء اللون مرمية بدون عمود ، حتى وقع بصري على أحدالكتب المفهرس تحت رقم سبعة وعشرين، في ملْصق أصفر محكوم بشريط لاصق ،مؤشر بحبر أحمر أعلى صفحته الثانية ،فكان ديوان ابن الفارض الذي نحرته اليوم ،وأنا واقف ،كان الموقف الذي ذكرت أشعرني ببرد الشتاء الذي فتك بنا ،لولا دفء المعاطف والمدفآت الكهربائية،فليله أخفى للويل ،طويل وكنت فيه مُقمِر ،البروفيسورة تتصل ،وترسل التحايا ،عبر تطبيق الماسنجر،وقدخصصت المحادثة بلون بنفسجي وبدل رمز الإعجاب زهرة حمراء تشبه زهرة الجورانيوم في شكلها ،ببساطة تكرهه، وعقب التحية المرموقة التي زفتها أناملها الياسمينيَّة المعطرة، كان لنا حديث آخر ،فهي دائما السَباقة ،لكي يكون لها الفضل في الحاصل المحصل،ولابد من استفزازها ،حتى ردت علي استفزازي بأبيات شعرية من مطلع قصيدة لإبن الفارض(قلبي يحدثني بأنك مُتلفي)،فهي من أجمل القصائد التي سمعتها بصوتها العذب ،وكثيراً ما نتشاجر ،لكن القلوب تحن على ولبعضها ،فهي عندي باليُمنِ¹.
-الساعة الثالثة مساءً،بعد أن أعدت الديوان لمكانه ،كانت رواية في قلبي أنثى عبرية ،والتي قرأت منها خمسين صفحةً أتأمل هاته التصورات البليغة، والتفاصيل المفصلة ،لكن في عظمة هذا التفصيل تفاصيل أخرى ،كوجهها البدري الذي دأبته بين زوايا الكتب ،يغفو مُتَألِباً لقارئة الكتب،نينا نرتشي العطر النسائي العالمي للحب ،المتوج بأوراق البنفسج،والخوخ الكرزِّي ،مع نفحات الفانيلا والعنبر ،الباهض الثمن المثير،الذي شممته فيك ذات يوم في السِرداب،ذو القارورة الزهرية ،التي تميل للشفافية،فالعطر كان ينساب في بشرتك ،معززاًبالرغبة في عناق حميم،فقارئة الكتب تتفرد بهذا العطر من صانعه فرانسيس كوركديجيان ،في لمسة مُخمليةراقية ،زادتك سموّاً ولايزال،بنفحة آسرة مثيرة،في مدينة البليدةالنابضة بالسعادة ،أتجول وأجوب أزقتها وشوارعها ،رغم الحرارة المرتفعة، مروراً بباب السبت ، تحديدا في زنقة ستي⁴،والباعة يعرضون سلعهم على الأرصفة طول الشارع المضلل بالفساطيط،في زحمةأكثرها نساءً ،عبقهن منعش ورائع لأجواء الصيف الحارة من شهر أغسطس/ آب ،وكان الشبه موجوداً في بعض الأحيان ،بينها وبين قرطبة ،إلا أن الأخيرة أكثر جمالاً، فهي جوهرة إسبانيا،والأخرى جوهرة الشمال الجزائري فمدينة الوررد من تأسيس الأندلُسيين ،لكي لا نظلم ونَتكلم بإنصاف ،الصباح كما جاء بي فهو لايزال يـُخرج الناس من بيوتها ،مرورا ً من هاته الشوارع ،عند موقف الحافلات قاصداً محطة نقل المسافرين ،المُحاذية لملعب مصطفى تشاكر،ركبت الحافلة البيضاء واقفاً ،ماسكا بمقبضٍ بلاستيكيّ أسود اللون ،والقابض ينادي بلهجته العاصمية(باناني ،الكُوشا )،لوجهة أخرى لكن في نفس المدينة طبعاً،وهاته المرة الصومعة مروراً بأولاد عيش،التي كان لنا فيها مآرب أخرى..
بين مدينة البليدة وقارئة الكتب وعطر نينا رتشي ،أجهل كيف أعطيها حقها ،رغم الإرتباط الكبير بينهم ،الذي عجزت فيه عن إعطاء مواصفات تليق بمقاهم المَلكي،فنعود بأدراجنا لهمس ذكرياتنا رغماً عنا ، مع سعينا لنسيانها،أدخن السيجارة الأخيرة ،وأرمي بالعلبة الزرقاء في سلة القمامة ،المعلقة على العمود الكهربائي،الذي أكل عليه الدهر وشرب ، وأرفض شراء علبة سجائر أخرى،وألقي بسمعي أسترق من صوت تلك الأغنية الشرقية الصادرة من هذا الكشك القريب مني ،فتليها أغنية أخرى من الزمن الجميل لحليم حافظ ،لاتفارق مسمعي، المقهى كان مليئا بالزبائن وقارئِي الجرائد ،وإشارة المرور معطلة عندالمفترق في زحمة مرورية خانقة، وصوت منهبات السيارات لايتوقف البتة،في المدينة بائع ورد ،وبائع خردوات ،يمازح المشترين ،كل الوجوه أبصرتها ،إلا وجهك ولايزال عطرك مُعبقا في قميصي الأسود عندآخر عناق، فلتمضي أيتها الأيام على رسلك ،فلم يعد قيل من جدوى والقلب الذي اجتمعت عليه الجِراح هو قلب لرجل واحد وإن كان لمرأة أخرى ......يتبع
عمر الفاروق إقبال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق